ما هو سر العام ٢٠٢٣ ؟وعلاقته بنضوج المشروع التركي؟ بحسب رؤية الكاتب أحمد ابراهيم

قبل الحديث عن الدولة العثمانية أو عن الأناضول، التي اصطلح عليها الأوربيون اسم تركيا، لا بد من الإشارة إلى عددٍ من النقاط:
أولاً: يجب التمييز بين ثلاثة مصطلحات؛ المصطلح الأول هو الأناضول، وهي الأرض التي سكنها ولا يزال العديد من الشعوب كان آخرهم الأتراك، فهنا موطن السريان والكلدان والآشوريين والأرمن والأكراد واليونانيين. المصطلح الثاني هو الدولة العثمانية وهي الدولة التي حكمت كل هذه الشعوب بالإضافة لشعوب أخرى حسب الغزوات التي كانت تقوم بها والدول التي احتلتها، ولم تتوقف الدولة العثمانية عن شن الهجمات ضد العشائر التركية التي هاجرت واستوطنت في الأناضول بعد أن تركت الحياة الرعوية وانتقلت إلى مرحلة الاستقرار. والمصطلح الثالث هو الدولة التركية التي خططت لها بريطانيا وفرنسا وأسسها مصطفى كمال أتاتورك. 
ثانياً: حين نتحدّث عن العثمانيين أو عن تركيا فنحن نتحدّث عن حكومات وليس عن شعوب، إذ يوجد في تركيا عشرات القوميات التي كانت تعيش في الأناضول قبل مجيء الأتراك إلى المنطقة وغزوها، وحتى بين الأتراك يوجد الكثير ممّن تمّ تتريكهم، ويوجد بينهم أصدقاء لبلدنا وللحق هم يعارضون السياسات الخارجية والداخلية للحكومة التركية.
ثانياً: لا يمكن النظر إلى تركيا على اعتبارها تاريخ أشخاص، بل هي مراحل ولكل مرحلة ذهنيتها وأيديولوجيتها، فأتاتورك على سبيل المثال هو نتاج للحركات التنويرية والاستشراقية التي بدأت تنتشر في تركيا. وحين نتحدث عن نموذج التغريب أو التحديث من الخطأ القول إنه بدأ فقط مع إعلان تأسيس الجمهورية بل جاء بعد رحلة محاولات تغريب وتحديث بدأت قبل مائة وخمسين عاماً من تأسيس الجمهورية. فقد بدأت هذه المحاولات منذ القرن التاسع عشر من قبل البيروقراطية الإدارية والعسكرية في الدولة العثمانية من أجل "إنقاذ الدولة"، ووصلت إلى نقطة الذروة من خلال الإصلاحات التي تم إجراءها في عهد التنظيمات (1839-1876) الذي كان في ذات الوقت نقطة انعطاف تاريخية مثّلت بداية نهاية الإمبراطورية العثمانية.
وعندما نتحدّث عن أردوغان فإنما نتحدّث عن مرحلة تاريخية بدأت منذ انقلاب 12 أيلول 1980 على يد كنعان إفرين ووصول تورغوت أوزال إلى السلطة والبدء بتطبيق النظام النيوليبرالي في الاقتصاد، وانتهاج فلسفة ما بعد الحداثة كاعتراض تاريخي للحداثة وإنكار لها، (الفرق بين التحديث والحداثة) وبداية رفض العقل والعمل على نشر كثافة منخفضة من الإسلام الطقسي. أوصلت هذه التطورات تركيا إلى انقلاب 28 شباط 1997 أو ما يسمى انقلاب ما بعد الحداثة على حكومة نجم الدين أربكان. طبعاً كانت هنا الإشارة إلى رغبة أمريكا في التخلّص من أحزاب الإسلام التقليدية وإحلال الإسلام المعتدل محلّها. أعقب هذا الأمر صدور كتاب "الجمهورية التركية الجديدة" لعميل الاستخبارات الأمريكية غراهام فولر مؤسس تيار الإسلام المعتدل وأيضاً مؤسس حزب العدالة والتنمية.   
لهذا السبب يجب دراسة تركيا وفهمها اعتماداً على البحث العلمي والتاريخي بعيداً عن التأليه والشيطنة لشخصياتٍ بعينها.
النقطة الأخرى:
لا يمكن فهم ما يجري في تركيا، كما لا يمكن فهم ما يقوم به رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان دون النظر في أمرين هامين:
الأمر الأول؛ هو التاريخ العثماني أو لنقل التاريخ التركي في الأناضول. فعندما أتى العثمانيون إلى منطقة الأناضول لم تكن فارغة من السكان، بل كان هناك شعوب تقطن المنطقة منذ آلاف السنين، كالسريان والآشوريين والأرمن والأكراد والعرب واليونان وغيرهم. وقد مارست الدولة العثمانية عمليات ترانسفير كثيرة بين البلقان والأناضول، وبالتالي ليس كل من في تركيا هم أتراك، بل شعوب أخرى تم تتريكها.
الأمر الثاني؛ (الحديث عن الروح والجسد) هو الفلسفة النيو ليبرالية التي يتبناها المحافظون الجدد في أمريكا، أصحاب مشروع الشرق الأوسط الكبير. والتي بدأت تهز العالم ومنطقتنا كما الإعصار المدمّر منذ بداية الثمانينات مع وصول رونالد ريغن ومارغريت تاتشير إلى السلطة في أمريكا وبريطانيا (السادات في مصر بعد الزيارة المشؤومة إلى العصابة الدولية المجرمة التي تحتل فلسطين، كنعان إفرين وتورغوت أوزال في تركيا بعد انقلاب 12 أيلول 1980).
لا شك أننا سمعنا جميعنا، أو لأقل المتابعين لما يجري في تركيا، عبارة سينضج مشروعنا عام 2023، على لسان معظم كوادر حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومنظّر الحزب ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، الذي يقول من حق تركيا أن يكون لها حق السيادة على مستعمراتها السابقة، وبالتالي تأسيس كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني.
فما هو سر هذا التاريخ؟
لنلقِ نظرة سريعة إلى ما تحدث عنه أردوغان في خطاباته:
بتاريخ 15 تشرين الأول 2016 (افتتاح السنة الدراسية في جامعة رجب طيب أردوغان في ريزا):
لدينا حدود فيزيائية ولدينا حدود قلبية، وهناك فرق كبير بين الحدودين. طبعاً نحن نحترم الحدود الفيزيائية، ولكننا لا نستطيع وضع الحدود على قلبنا، ولن نسمح لأحد بالتدخل في ترسيم هذه الحدود. البعض يسألنا عن سبب اهتمامنا بسورية وسبب اهتمامنا في العراق. ألا نقرأ في التاريخ شيء اسمه الميثاق المللي (العهد أو القسم القومي)؟ماذا يوجد في حدود القسم القومي؟ إن كان لديكم مشكلة مع الميثاق القومي، عليكم ألا نناقش هذه المسألة فيما بيننا بل يجب الحديث عن المهام الواقعة على عاتقنا.
19 تشرين الأول 2016 (الكلمة التي ألقاها في اجتماع المخاتير في باشتبة):
لماذا تنزعجون من ذكر القسم القومي؟ إن الذي حضّر القسم القومي هو مصطفى كمال أتاتورك.. لماذا تنزعجون؟ ألا يوجد تاريخ لهذه الأمة؟ هذا موجود في التاريخ. ولكن مع الأسف لم نحمِ حدودنا التي رسمها القسم القومي. ربما يوجد أشخاص يرون عذراً لأن الظروف في تلك الفترة لم تكن مناسبة، ومن الممكن إلى حدّ ما وضع أعذار من هذه الناحية. ولكن غير المقبول وغير الممكن أخذ هذا العذر الناجم عن تلك الظروف سبيلاً للاستكانة، وسجن أنفسنا في هذه القوقعة. أجل نحن نرفض ذلك. يريد الذين حبسونا في هذه الدوامة منذ عام 1923، منا أن ننسى وجودنا في هذه الجغرافيا طيلة ألف عام، يريدوننا أن ننسى تاريخنا السلجوقي والعثماني.
آذار 2017 (من المقدمة التي كتبها الرئيس التركي أردوغان لمجلة تركيا الجديدة تحت عنوان "مفتاح القوس الذي لم يُغلق: القسم القومي):
من خلال النظر إلى التاريخ فقط يمكننا فهم سبب اهتمامنا بما يحدث في سوريا والعراق ومصر وليبيا والبلقان والقوقاز، التاريخ هو أفضل من سيرد على الذين يسألون: لماذا نحن موجودين في هذه الدول. لأن الجواب واضح جداً.. الحرب العالمية الأولى لم تنتهِ حتى اليوم. ونحن سنتابع عملنا ونتابع نضالنا ضد الذي عملوا على ستر الدم بالدم والظلم بالظلم مستمدين قوتنا من تاريخنا ومن ثقافتنا. عدم نسيان القسم القومي هو أول وأهم شرط من شروط هذا النضال.
10 تشرين الثاني 2017 (الكلمة التي ألقاها في اجتماع المخاتير في باشتبة):
لم نستطع صيانة القسم القومي الذي أُعلن هنا ونحنا نبدأ بحربنا الوطنية. أتحدث أحياناً عن التطورات التي تجري في سوريا والعراق مشيراً إلى هذه النقطة. إننا مضطرون اليوم لتبني الميثاق الوطني والدفاع عنه. وإن كان يُشن علينا هجمات من داخل هذه الحدود فلن نستطيع القول لهم: تفضلوا تابعوا هجومكم. بل علينا القيام بما يجب علينا القيام به، وهذا ما يجري في إدلب.. أوضّح مجدداً، هذا ما يحدث في عفرين أيضاً.
من هذه التصريحات يمكننا فهم الأسباب الكامنة خلف مطالبة أردوغان بما يسمى المنطقة الآمنة، وهي في الحقيقة منطقة أمنية سيتم تغيير البنية الديمغرافية فيها وتحضيرها للاستفتاء الذي سيطالب به الأتراك عام 2023، في الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان التي ألغت الميثاق المللي ورسمت الحدود الحالية لتركيا. حيث كانت الحدود، حسب الميثاق المللي، تمتد من شمال اللاذقية وتضم ادلب وحلب ودير الزور والجزيرة السورية وكركوك والموصل وتتجه شمالاً إلى الحدود الشرقية لتركيا.
نظرية المجال الحيوي هي نظرية سياسية وضع أسسها العالم الألماني فريدريك راتزل ((1844 - 1904 وترتكز على حق الدول الكبرى الحضارية في احتلال الدول الأخرى الموجودة في مجالها الحيوي، فقد قدّم راتزل فكرته الكبرى في كتابه الجغرافيا السياسية والذي ظهر عام 1897 بأن الدولة كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، والذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه.
أحب الإشارة بداية إلى أن تركيا، كما الدولة العثمانية كما السعودية أو الكيان الإسرائيلي أو أمريكا، تأسست كما تتأسس الأحياء العشوائية، سكان جدد على أرض ليست لهم، والفرق في الأمر أن الأراضي التي تتشكل عليها الأحياء العشوائية تكون في الأساس مناطق خالية من السكان وإن كان لها صاحب معروف ربما يكون الدولة أو أحد مواطنيها، بينما أراضي الدولة العثمانية وفيما بعد الدولة التركية كانت مأهولة بالسكان ولهذا كان لا بد من التخلص من هؤلاء السكان إما عن طريق دمجهم وتغييب هوياتهم أو عن طريق ارتكاب الإبادات الجماعية بحقهم. وانتهاج سياسة الفتوحات والنهب.
تبنى الحكام العثمانيون ومن بعدهم الحكام الأتراك دائماً إيديولوجيا توسعية خلال تاريخهم كدولة متماسكة، فقد انتهجوا الإيديولوجيا الإسلاموية من أجل السيطرة على العالم الإسلامي، وبقيوا ملتزمين بهذه الإيديولوجيا طوال تاريخ الدولة العثمانية، وبعد سقوطها انتهجت الدولة التركية الحديثة إيديولوجيا النزعة الطورانية التركية، واليوم نجد نظام أردوغان في تركيا ينتهج ذات النزعة التوسعية تحت مسمى مشروع العثمانية الجديدة الذي سينضج حسب منظريه عام 2023 الذي يصادف الذكرى المئوية لسقوط الدولة العثمانية، وفي كلتا الحالتين بقيت هذه الإيديولوجيا تعتمد على العرقية والاستعمار والإلحاق.. وفي كل الحالات يسعى النظام التركي، على اعتباره وريث كافة تجارب الإمبراطورية العثمانية،للسيطرة، فمرّة يرتدي اللباس الإسلامي  (بان إسلاميزم) للسيطرة على العالم الإسلامي ومرّة يسعى لجمع كافة الأتراك الموجودين في العالم في دولة واحدة تحت اسم (بان توركيزم). لكن الجوهر كان دائماً العرقية والاستغلال والاحتلال والإلحاق.. فعلى سبيل المثال بقيت الكمالية حتى عام 1939 تعترف بوجود دولة لواء اسكندرون المستقلة، ولكنها استطاعت استخدام التوازنات الداخلية والخارجية التي أنتجتها أجواء الحرب العالمية الثانية واتفقت مع الاحتلال الفرنسي من أجل سلخ لواء اسكندرون عن وطنه الأم سوريا وضمه إلى تركيا. وكذلك الأمر، فقد اعترفت الدولة التركية بجمهورية قبرص المستقلة من خلال اتفاقية لندن الموقعة عام 1960 بين بريطانيا واليونان وتركيا، وعندما كانت الشروط مناسبة قامت تركيا باحتلال الجزء الشمالي من قبرص في عهد حكومة بولند أجاويد عام 1974.