من «ضامنة» للأمن السيبراني في المنطقة إلى شركة تكافح للبقاء: هكذا تبخّرت أحلام إسرائيل الرقمية
بعد عام على حرب الإبادة والتطهير العرقي الإسرائيلية على غزة، تواجه صناعة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل، وهي مركز معترف به عالمياً في هذا الشأن، تحديات مصيرية.
لعقود من الزمن، تفاخرت إسرائيل بأنها «أمة الشركات الناشئة»، إذ يمثل قطاع التكنولوجيا فيها ما يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد و14% من القوى العاملة فيها. ومع ذلك، أجبرت الحرب التي يغذيها اليمين المتطرف، عدداً من الشركات والمستثمرين وروّاد الأعمال على إعادة النظر في التزاماتهم تجاه إسرائيل
مع انخراط «الجيش» الإسرائيلي في عملية واسعة النطاق في غزة واستدعاء نحو 300 ألف جندي احتياط - يعمل الكثير منهم في قطاع التكنولوجيا - دُفعت الصناعة مباشرةً إلى وضع الأزمة. وبالنسبة إلى الشركات التي تعتمد عملياتها على العمالة الثابتة والابتكارات المتطورة، شكّل هذا الاضطراب صدمة كبيرة. فالمستثمرون متردّدون، وتدفق رأس المال، الذي كان متوتراً بالفعل بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي في وقت سابق من عام 2023، تعرّض لمزيد من العوائق.
في النصف الأول من عام 2023، انخفض رأس المال الذي جمعته شركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية بنسبة 75%. وصحيح أن بعض الانتعاش حصل في الربع الثالث، إلا أن المستثمرين يحولون الأموال الآن إلى أسواق أكثر أماناً، مثل أوروبا والولايات المتحدة (وهنا مربط الفرس)، بسبب المخاوف من أن التزامات الخدمة الاحتياطية للموظفين الإسرائيليين قد تطيل أمد حالة عدم اليقين التشغيلي. وعلاوة على ذلك، تراجعت إسرائيل عن مكانتها السابقة من بين الدول الخمس الأولى في الاستثمارات العالمية في مجال التكنولوجيا الفائقة، وهي الآن متخلفة عن دول مثل ألمانيا وفرنسا مصدر †38†.
في تقرير نشره موقع «تايمز أوف إسرائيل» في 11 آب (أغسطس) الماضي، أفاد أنه بعد سنة من الحرب والاضطراب بسبب الإصلاح القضائي، سرّحت الشركات في قطاع التكنولوجيا في إسرائيل موظفيها وتوقّف نموها وتواجه تحديات كبيرة. ويُظهر انخفاض الاستثمارات، من 15 مليار دولار في عام 2022 إلى 7 مليارات دولار في عام 2023، تراجع القطاع. وقد استؤنفت عمليات تسريح الموظفين، إذ خفّضت نحو ربع إلى نصف شركات التكنولوجيا عدد موظفيها بنسبة 5% إلى 10%. هذا القطاع، الذي أظهر مرونة في الأزمات السابقة، يشهد الآن تراجعاً مع ابتعاد المستثمرين المحليين والدوليين خوفاً من عدم الاستقرار السياسي والشكوك الاقتصادية. وتتفاقم مشكلات القطاع بسبب الاتجاه العالمي لتسريح الموظفين بين عمالقة التكنولوجيا الأميركية والمنافسة من أوروبا، التي تضيق الفجوة في الابتكار التكنولوجي والاستثمار. ويبدو أن للحرب والاضطرابات الداخلية تأثيراً دائماً بحسب الموقع العبري، مع انتقال بعض مراكز التطوير إلى الخارج وتراجع عدد روّاد الأعمال الإسرائيليين الذين يطلقون شركات ناشئة داخل البلاد.
ومع زيادة الاستثمارات الأوروبية في مجال التكنولوجيا، أصبحت هيمنة إسرائيل على التكنولوجيا في خطر، ما يزيد من تفاقم الصعوبات التي تواجهها الصناعة.
مع وقوع إسرائيل في فخ انعدام الاستقرار الأمني، واستمرارها على هذه الحال بسبب مكابرة مجموعات اليمين المتطرف التي يحركها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، تكيّفت شركات التكنولوجيا العملاقة التي لديها عمليات كبيرة في إسرائيل، مثل «غوغل» و«مايكروسوفت» و«ميتا»، مع المخاطر المتصاعدة عبر نقل الموظفين إلى مناطق أكثر أماناً وتنفيذ بروتوكولات الطوارئ.
وصحيح أنّ أيّاً من هذه الشركات لم تنسحب بالكامل من «إسرائيل»، إلا أنها اتخذت تدابير احترازية، بما في ذلك نقل الموظفين من المناطق العالية الخطورة وتغيير عملياتها. ودقت «مايكروسوفت» ناقوس الخطر بشأن استكمال عملياتها في «إسرائيل» على المدى الطويل.
فقد حذر كبير علماء «مايكروسوفت إسرائيل»، تومر سيمون، علناً، من أن الشركات المتعددة الجنسيات قد تفكر في تجميد استثماراتها في إسرائيل أو تقليصها إذا لم يستقر الوضع. كما تحدث عن احتمال إغلاق مراكز البحث والتطوير، الأمر الذي قد يكون له آثار مدمرة على اقتصاد الكيان العبري ومكانته العالمية في مجال الابتكار التكنولوجي. وقد نقلت «مايكروسوفت» بالفعل جزءاً كبيراً من قوتها العاملة إلى عمليات عن بُعد، لضمان استمرارية الأعمال. كما نوّعت عدد من الشركات أيضاً قاعدة موظفيها لتعويض الموظفين الذين استدعوا للخدمة العسكرية. ونفذت بعض شركات التكنولوجيا، مثل «أكتيف فينس»، خططاً للحفاظ على عملياتها عبر الاعتماد على قوتها العاملة العالمية لتعويض الموظفين الإسرائيليين الذين نشروا للخدمة الاحتياطية. كذلك، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «الغارديان» في 28 تموز (يوليو) الماضي، بدأت شركة Verily، وهي شركة للتكنولوجيا الصحية تابعة لشركة «غوغل»، إغلاق عملياتها في الأراضي المحتلة، ما يمثل نهاية لوجودها في البلاد الذي استمر ثلاث سنوات. ومن المقرر أن يكتمل الإغلاق، الذي سيؤثر على مراكز البحث والتطوير في حيفا وتل أبيب، بحلول الربع الثالث من عام 2024. وأكدت الشركة على نقل الابتكارات الرئيسية من الفرق الإسرائيلية إلى مواقعها في الولايات المتحدة.
لم تؤثر الحرب على صناعة التكنولوجيا المحلية في «إسرائيل» فقط، بل ضربت أيضاً مكانتها في التجارة العالمية. بعدما كان الكيان محط إشادة كنموذج للابتكار في مجال التكنولوجيا الفائقة والنمو الاقتصادي، بدأ تورّط إسرائيل في النزاعات العسكرية في تشويه هذه الصورة على الساحة الدولية. فمع تكثيف الغارات الجوية الإسرائيلية وتصاعد الخسائر في صفوف المدنيين في غزة جراء المجازر، بدأت النظرة العالمية تتغير. بالنسبة إلى الكثيرين في المجتمع الدولي، أثارت تصرفات إسرائيل مخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، ما أدى إلى احتمال ابتعاد بعض الأسواق الغربية والمستثمرين الغربيين عن إسرائيل.
لم يكف إسرائيل اضطراب أسسها التكنولوجية، فرغم تفوّقها في هذا المجال، إلا أنها أضاعت فرصة صناعة الشرائح المتقدمة. الأخيرة هي عملية بالغة التعقيد جزأتها الولايات المتحدة منذ التسعينيات بين حلفائها. وبحسب تقرير بالغ الأهمية نشره موقع «غلوبز» العبري في 6 آب (أغسطس) الماضي، أدى اعتماد إسرائيل الكبير على شركة «إنتل» الأميركية إلى تعريضها لمخاطر كبيرة. دائماً ما كانت «إنتل» حجر الزاوية في صناعة التكنولوجيا في «إسرائيل» منذ ما يقرب من 50 عاماً، إذ نمت من مركز تطوير صغير في حيفا إلى أكبر صاحب عمل في القطاع الخاص في الكيان، يعمل فيها 11,700 موظف. تسهم «إنتل» بحوالى 6% من صادرات إسرائيل التكنولوجية و1.75% من ناتجها المحلي الإجمالي. ومع ذلك، فإن الصعوبات التي واجهتها «إنتل» أخيراً، بما في ذلك وقف توسعة مصنعها في كريات جات وتسريح نحو ألف عامل، تبرز نقاط الضعف في الاعتماد بشكل كبير على شركة واحدة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ورغم الوجود الكبير لشركة «إنتل»، فشلت الحكومة الإسرائيلية في جذب شركات صناعة الرقائق الكبرى الأخرى لتنويع صناعة أشباه الموصلات. وبِيع عدد من الشركات الناشئة الإسرائيلية التي أسّسها موظفون سابقون في «إنتل» إلى عمالقة التكنولوجيا مثل «إنفيديا» و«أبل» و«أمازون»، أي أن ما تتفاخر به إسرائيل كونها «أمة الشركات الناشئة» فإنّ جزءاً كبيراً من تلك الشركات وأكثرها أهمية استحوذ عليه الغرب. في هذا الشأن، يقول رئيس هيئة الابتكار الإسرائيلية السابق عامي أبلباوم، إن إسرائيل فوتت فرصة سن سياسات طويلة الأجل في مجال أشباه الموصلات على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين استثمرا المليارات لدعم تصنيع الرقائق. كما أن عدم وجود مديرين تنفيذيين إسرائيليين في الشركات الآسيوية، التي تهيمن على صناعة الرقائق، يحدّ من قدرة البلاد على جذب المصنّعين العالميين. وقد دعت رئيسة لجنة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة في الكنيست، أوريت فركش هاكوهين، إلى الإفادة من أموال قانون الرقائق الأميركي لجذب الشركات الأجنبية. وتصر على أنه يجب على إسرائيل الاعتراف بالرقائق كجانب حاسم من جوانب «الأمن القومي» وتنفيذ خطة متعددة السنوات لإقامة تحالفات و«تأمين سلسلة توريد الرقائق».
رغم أن إسرائيل لا تزال لاعباً رئيسياً في عدد من القطاعات المتطورة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، إلا أن دورها الأوسع في التجارة العالمية قد يتضاءل. وبالفعل، أعرب بعض المستثمرين الأميركيين عن عدم ارتياحهم لمواصلة دعم الشركات الإسرائيلية، من باب قلقهم من مخاطر السمعة وسط التدقيق المتزايد بشأن الحرب. وقد يؤثر الصراع الذي طال أمده وتداعياته أيضاً على إدراج إسرائيل في اتفاقيات التجارة العالمية المستقبلية. فبينما تعيد دول العالم تقييم علاقاتها التجارية، قد تؤدي الحرب الإسرائيلية المستمرة إلى إعادة ترتيب التحالفات. فقد أصدر الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، بيانات انتقادية بشأن استخدام إسرائيل للقوة، وقد تتردد بعض الدول الأعضاء في تعميق العلاقات التجارية مع بلد يُنظر إليه على أنه يسهم في عدم الاستقرار الإقليمي. وإذا تنامى هذا الشعور، فإن إسرائيل تخاطر بأن تصبح أكثر عزلة في النظام التجاري العالمي، ولا سيما في الصناعات التي كانت شركاتها التكنولوجية منافساً قوياً فيها سابقاً.
بالنظر إلى المستقبل، قد تشهد بعض القطاعات الفرعية، مثل تكنولوجيا الدفاع والذكاء الاصطناعي، نمواً، حيث تجد الابتكارات التي تم اختبارها في الحرب تطبيقات عالمية. ومع ذلك، بالنسبة إلى النظام البيئي التكنولوجي الأوسع، سيعتمد الانتعاش على استقرار الوضع الأمني وإعادة بناء ثقة المستثمرين. إذا لم تتم معالجة هذه التحديات، فإن إسرائيل تخاطر بفقدان مكانتها كمركز تكنولوجي عالمي.
إضافة تعليق